Pages

Tuesday, July 12, 2011

جيل الثورة المصرية


شهدت التركيبة السكانية تغيراً جذرياً خلال الحقبة المباركية ساهم في صنع جيل لم تشهد مصر مثيلاً له لا في القوة العددية ( سواء النسبية أو المطلقة) أو في القوة الذهنية وكان المحرك الرئيسي لثورة يناير وسيكون له أدوارٌ أخرى في التنمية في الثلاثين عاماً القادمة على الأقل. فلاول مرة في التاريخ يصبح أكثر من ٦٣٪ من المصريين في سن العمل ( من ١٥ إلى ٦٥ سنة ) بعد أن كانت نسبة البالغين مستقرة عند مستوى ٥٤٪ لعقود طويلة.

هذا النوع من التغيير فى التركيبة السكانية يصحبه دائماً تغير جذري في نواحي كثيرة فى المجتمع. فهذا الجيل ليس فقط أكثر عدداً ولكنه أيضاً أعلى تعليماًو أحسن صحةً و متوقع له عمراً أطول من كل الأجيال التي سبقته. ولكنه أيضا بحكم عدده، يضع كثيراً من الضغوط على سوق العمل. فكل أبناء الجيل ليس على إستعداد للتخلي عن طموحاتهم المشروعة في العمل والحياة الكريمة لمجرد أن أداء الدولة الاقتصادي والسياسي لا يستطيع أن يواكب هذا الطموح. ليس هذا فقط، بل انهم جيل عالى التعليم مقارنة بالاجيال السابقة ولن يرضى بوظائف غير منتجة أو بعمل لا يستخدم طاقاتهم الانتاجية بشكل كامل. وحتى إذا رضي بعضهم ببيع الخبز على الأرصفة فلا توجد أرصفة كافية لتوفير عمل ل٥٢ مليون مصري في سن العمل. وإذا قبلوا بالوظائف الحكومية فلن تكفي لرفع مستوى المعيشة فوق خط الفقر العالمي فإنهم سيبذلو قصارى جهدهم للعثور على عمل إضافى آخر لتحقيق طموحاتهم في مستوى معيشة لائق. كل هذايعني أنهم جيل وجد نفسة من اللحظة الأولى لدخول سوق العمل في صدام مستمر مع الأداء الهزيل للسياسة الحكومية. ومع إصرار حكومة النيو ليبراليين(٢٠٠٢-٢٠١٠) على أن كل شيء "تمام" و تجاهل احتياجات الشباب أصبحت الثورة الملاذ الوحيد لشباب لايريد أن يقضي عمره ينام ويأكل في بيت الاسرة بدون أي أمل في تأسيس حياة مستقلة. فكيف جاء هذا الجيل إلى الوجود؟ وما الذي حدث حتى يحدث هذا التغيير الجذري في التركيبة السكانية؟

منذ بداية الجمهورية المصرية الحديثة عام 1953 وحتى ١٩٧٣ لم يحدث أي تغيير يذكر في نسبة البالغين لباقي السكان. ففي حقبة الخمسينات والستينات شهدت مصر هبوطاً في معدلات النمو السكاني بشكل ملحوظ في الستينات من القرن الماضي ( من ٢٫٦٪ في ١٩٦٠ إلى ٢٫١٪ في عام ١٩٧٣). هذا النمط في تراجع معدلات النمو السكاني لا يختلف كثيراً عن تجارب الاقتصاديات النامية الاخرى فى العالم في هذه الحقبة التاريخية و يتفق مع النظريات التنمية الاقتصادية و النمو السكاني. ولكن منذ ١٩٧٣ حدث تغير ما جعل معدلات النمو السكاني تنحرف عن هذا النمط المتوقع و تعود للصعود مع عودة الجنود من الحرب. فمنذ عام ١٩٧٣ وحتى عام ١٩٨٧ ومعدل النمو السكاني في زيادة مطردة. فقد إرتفع معدل النمو خلال الفترة من ٢٫١٪ في ١٩٧٣ إلى ٢.٨٪ في ١٩٨٧. خلال هذه الفترة توقف معدل المواليد عن الهبوط بينما إستمر معدل الوفيات في الهبوط مما أحدث طفرة هائلة في معدل نمو السكان. اى ان الزيادة السكانية قفزت أكثر من الثلث على مدى ١٤ عاما. واستمرت "القفزة السكانية" لمدة ٢٠ عاماً قبل أن يعود معدل النمو إلى مستواه الطبيعي (المستوى الطبيعي هنا هو المستوى المتوقع للنمو بناءً على النمط طويل المدى). فبعد ١٤ عاماً من إرتفاع معدلات النمو السكاني بدأت معدلات النمو في الهبوط من جديد بعد عام ١٩٨٧ و بحلول عام ١٩٩٣ كانت معدلات النمو قد عادت إلى مستواها الطبيعي أو المستوى طويل الامد.

كنتيجة مباشرة لهذه "القفزة السكانية" المؤقتة تغيرت التركيبة العمرية للمجتمع المصري بشكل غير مسبوق من قبل. فجيل القفزة أو الثورة إذا جاز التعبير من مواليد عام ١٩٧٣ إلى عام ١٩٩٣، أكثر عدداً بشكل نسبي من الجيل الذي سبقة والجيل القادم من بعده. وبدخول أخر مواليد هذا الجيل إلى سوق العمل (مواليد ١٩٩3 أتموا 15 سنة عام 2008) تصبح نسبة البالغين في سن العمل الأعلى في تاريخ مصر. فبعد ثبات نسبة البالغين في سن العمل عند مستوى ٥٤٪ لعقود طويلة، تبدأ هذه النسبة في الصعود عام ١٩٩٢ أو بمعنى أخر عندما يبدأ أوائل جيل القفزة (مواليد عام ١٩٧٣) في الدخول إلى سن العمل و تستمر في الصعود حتى تصل إلى مستوى ٦٣٪ في ٢٠٠٨ (أو عندما دخل أخر مواليد هذا الجيل إلى سن العمل). الجدير بالذكر أن نسبة البالغين ستعود للهبوط مرة أخرى عندما يبدأ جيل "القفزة السكانية" في وصول سن التقاعد. إذاً فمصر في مرحلة خاصة جداً في تاريخها ربما لن تتكرر ثانياً على الأقل فى المدى القريب.

ان تجارب الدول الاخرى مع الظواهر السكانية المماثلة اثبتت أن مثل هذا التغير في التركيبة السكانية يصحبه دائماً تغير جذري في نواحي كثيرة من المجتمع. أقرب مثال لهذا الإنفجار السكاني المؤقت أو ما يسمى "فقاعة الاطفال" في التاريخ الحديث هو ما عرف بجيل الفقاعة في أوروبا و الولايات المتحدة من مواليد عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥٥. هذا هو نفس الجيل الذي قاد حركة الحريات المدنية في اواخر الستينات من القرن الماضي وكان له بالغ الاثر في تغيير المجتمع وبالذات بالنسبة لقضايا الحريات المدنية والسياسية للمرأة و للاقليات العرقية. ان موجة الثورات الشبابية التي اكتسحت العالم في ربيع ١٩٦٨ وكانت مصدر إلهام للعالم كله وغيرت شكل المجتمع المتقدم إقتصادياً بشكل جذري كان يقودها جيل من الشباب لا يختلف كثيراً عن جيل الثورة في مصر والعالم العربي كثيراً. بل أن هناك صفات كثيرة تجمع ما بين جيل ١٩٦٨ في أوروبا والولايات المتحدة وجيل مصر 2011. كل الجيلين عن بشكل أو أخر من الجمود السياسي و غياب فرص العمل التي كانت متوفرة لجيل أمهاتهم وابائهم.

فليس غريباً إذاً أن يتشارك جيل مصر ٢٠١٠ مع جيل براغ و وودستوك ١٩68 في الرغبة في تغيير المجتمع و الاستعداد للعمل الجماعي المشترك لتحقيق هذا التغيير المنشود بالرغم من إختلاف الزمان و المكان و الظروف. لذا فليس غريب جداً أن يكون بداية انجازات هذا الجيل ثورة سياسية كاملة اتوقع أن يتبعها ثورة في الاقتصاد و المجتمع ككل.

لم يكن هدف هذه المقالة وصف السياسات السكانية وليس هدفها شرح أسباب التغيرات التي حدثت في معدلات النمو السكاني والتي ربما تكون قد درست بالتفصيل من قبل على يد اساتذة الدراسات السكانية. ولكن هدف المقالة توضيح كيف جاء هذا الجيل من مواليد عام ١٩٧٣ تقريباً إلى مواليد ١٩٩٣ ليصبح واحدا من أكثر الاجيال ثورية ورغبةً في تغيير أحوال مصر للافضل. إختلاف هذا الجيل ليس أنه جيل متجاوز مصلحتة الفردية وقرر نبذ الأنانية ولكنة جيل أدرك أن مصلحته الفردية في الرفاهية والسعادة لن تتحقق إلا بمشاركة جماعية لكل أبناء الجيل في صنع مستقبل جديد.